ما يتبع تصديق القلب من العمل
يقول: (وهذا التصديق يتبعه عمل القلب)، فالإيمان المجمل أو المفصل يتبعه عمل القلب، (وهو حب الله ورسوله، وتعظيم الله ورسوله، وتعزيز الرسول وتوقيره، وخشية الله والإنابة إليه والإخلاص له والتوكل عليه، إلى غير ذلك من الأحوال)، يعني: يجب على من آمن وصدق أن يتبع ذلك بهذه الأعمال القلبية التي لا بد منها. يقول: (فهذه الأعمال القلبية كلها من الإيمان، وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد، وإيجاب العلة المعلول) أي: كما أن العلة والمعلول متلازمان ولا بد، فحيث توجد العلة يوجد معلولها بدون أدنى شك؛ فكذلك إذا وجد هذا لابد من أن يوجد ذلك. قال: (ويتبع الاعتقاد قول اللسان، ويتبع عمل القلب عمل الجوارح)، فإذا اعتقد الإنسان بقلبه شيئاً فلا بد من أن يقوله، وإذا وجد عنده عمل القلب فلا بد من أن يعمل بجوارحه، كالصلاة والزكاة والصوم والحج. ولو أننا أخذنا في تفصيل هذا من أمثلة القرآن أو من واقع حياة الناس الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن هناك أقواماً لم يأتوا بشيء من الإيمان، لا القول ولا العمل، وهم الذين كذبوا ظاهراً وباطناً، ولم يؤمنوا بشيء مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فليسوا من أهل الإيمان مطلقاً، وأمرهم ظاهر. ولكن لو أن رجلاً أتى بالتصديق القلبي فقط، أي: علم في قلبه وصدق بقلبه أن هذا الدين حق وأن هذا النبي حق، دون أن يقول بلسانه ولا يعمل بجوارحه، فهذا كافر لا شك فيه، ومثاله فرعون لعنه الله، وهو أكبر الفجرة والكفرة، وأكثر من ذكره الله في القرآن بالكفر والطغيان، ومع هذا يقول الله عنه وعن قومه: (( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ))[النمل:14]، فما نفعه أنه يعلم بقلبه، ولهذا قال له موسى عليه السلام: (( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ))[الإسراء:102]، يقول: أنت تعلم -يا فرعون - أن هذا حق، وأن الله قد بعثني به، وأنه من عند الله. هكذا أخبر الله عنه أنه في قلبه موقن بأن موسى عليه السلام صادق، وما نفعه ذلك في شيء حين لم يأت بالثلاثة الأركان الباقية. وهذا فيه رد واضح على الجهم وغيره في حكمه بالإيمان لمن رأى النبي وعرف في قلبه أنه صادق، فأين الانقياد والإذعان والمتابعة؟! فمن أتى بمجرد المعرفة بالقلب أو العلم بقلبه، ولكنه لم يذعن ولم ينقد، لا يعد مؤمناً. ولو أن أحداً قال بلسانه: أنا مؤمن، أو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ولكنه غير مقر بقلبه ولم يعمل بجوارحه؛ فإنه يعد منافقاً نفاقاً أكبر، كما قال تعالى: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ))[البقرة:8-9]، ففي القرآن ما يدل على أن من قال: آمنت بالله وباليوم الآخر بلسانه والقلب يكذب ذلك فإنه يعد كافراً كفراً أكبر، وهذا القول إنما هو نفاق وكذب ومخادعة. وقد قال تعالى: (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ))[المنافقون:1]، كانوا يسمعون أن الناس يدخلون في الإيمان بقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) فيأتون ويقولون: نشهد -يا محمد- أنك رسول الله، فالله تعالى كذبهم وبين أن هذه الشهادة كاذبة ولو قالها قائلها باللسان ما دام لم يقر بقلبه. وحتى تتضح الصورة نقول: هل كان كفار قريش الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم في بدر و أحد و حنين يعتقدون في قلوبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كاذب مفتر؟! لقد أجاب الله تعالى عن ذلك فقال: (( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ))[الأنعام:33]. فإن قيل: كيف نجمع بين هذه الآية وبين ما أتى في آيات كثيرة أنهم كذبوه، كقوله تعالى: (( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ))[فاطر:4]، (( فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ))[غافر:24]؟ فالجواب أن قوله تعالى: (( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ))[الأنعام:33] أي: لا يعتقدون كذبك، ولكن ينسبونك إلى الكذب، وما كان عندهم شك في ذلك، فقد كانوا في ندواتهم ومجالسهم الخاصة يتحدث بعضهم إلى بعض بأن هذا نبي، بل كان بعضهم يذهب ليستمع القرآن، وكثير من أحوالهم دال على إقرارهم. فالله تعالى يقول: (( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ))[الأنعام:33] جحود مكابرة، هذا حال كفار قريش. وأما أهل الكتاب فحالهم أعجب؛ لأنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا في الجاهلية فيقولون: يا معشر الأوس، يا معشر الخزرج، يا أيها العرب! سوف يخرج نبي في آخر الزمان وسوف ننتصر به عليكم ونقاتلكم، (( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ))[البقرة:89]، حتى إن رجلاً منهم صعد على الرابية وأخذ يقول: يا بني قيلة! هذا صاحبكم، ولهذا قال الله: (( يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ))[البقرة:146]، وأوضح معرفة يمكن أن يتخيلها الإنسان معرفة الابن، فيمكن أن يخطئ الإنسان أو يتردد في تحديد صديق مثلاً، أما الابن فلا يخطئ فيه، فكيف بالذين هم في غاية الدهاء والمكر والتعمق من أهل الكتاب الذين كانوا يقرءون ويفصلون في كل أمر، فعرفوا النبي بصفاته الدقيقة، كما في حديث سلمان أنهم أخبروه بخاتم النبوة أنه بين كتفيه! فقد تخالط كثيراً من الناس، وقد يكون المخالط أباك أو أخاك ولا يسبق لك أنك رأيت ظهره أو كتفه، فكيف اطلعوا على هذه الأمور الدقيقة؟! فالله تعالى أقام الحجة عليهم وهم يعلمونهما، ومع ذلك كفروا، بل كانوا أول كافر به. النوع الثالث: أن يأتي الإنسان ويقر بلسانه ويقر بقلبه، ولكن لا يتبع ولا يذعن، فهنا يكون كافراً في حقيقته.كما في خبر الحبرين من اليهود الذي ذكره الإمام أحمد و النسائي ، حيث قال أحدهما للآخر: ( انطلق بنا إلى هذا النبي ) فتذكر الآخر أنهم قد وضع لهم حد، وهو أنهم لا يقولون: إنه نبي، فقال: ( لا تقل هذا؛ فإنه لو سمعها كان له أربع أعين )، يفتخر بأننا اعترفنا بنبوته فانطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله تعالى: (( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ))[الإسراء:101] ما هي؟ فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجواب إلى الوصايا العشر، فقال: ( ما نبي بعثه الله إلا قال: (( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ))[الأنعام:151] ) فلم يستطيعا أن يقولا: هذه هي الوصايا العشر، وليست الآيات التسع، لأنهما علما أنه فقه وأطلعه الله على مرادهما، فقالا: نشهد أنك نبي. فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما يمنعكما أن تتبعاني ) فقالا: إن الله قد أخذ العهد أن لا يزال في ذرية داود نبي. أي: كيف وأنت تقول: إنك آخر الأنبياء وأنت من ذرية إسماعيل من العرب، ولست من ذرية داود، فلا يمكن أن نتبعك. وفي الرواية الأخرى قالا: إنا نخشى أن نؤمن بك فتقتلنا يهود ، فذهبا من عنده. فالشاهد أنهما أقرا بألسنتهما، فحصل القول عندهما، وهو قول القلب، لكن لم يحصل منهما عمل القلب ولا عمل الجوارح، وما اعتبرا أنفسهما مؤمنين، ولا النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة اعتبروا هذا إيماناً. وهذه مسألة مهمة جداً، فنحن في آخر الزمان، يأتي الرجل فيقول: أنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله، وفي قلبه مصدق بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، ولكن لا انقياد ولا إذعان ولا إخلاص ولا يقين ولا توكل ولا رغبة ولا رهبة، ولا صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج ولا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر، ويقول: أنا مسلم، فما الفرق بينه وبين هذين الحبرين؟! فهذه الحالة الثالثة تشبهها حالة أبي طالب القائل: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا فما أباح، لكنه يعلم أن هذا دين حق، وعند الموت عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كله، فقال: ( يا عم! قل كلمة أحاج لك بها عند الله ) فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب . فمات على غير ملة الإسلام. فمن هنا أجمع أهلة ملة الإسلام على أن من لم يأت بالشهادتين ولم ينطق بهما مع القدرة فليس بمؤمن لا ظاهراً ولا باطناً، ولا يجري علي شيء من أحكام الإسلام لا في الدنيا ولا في الآخرة.وأما الحالة الرابعة فحالة من صدق بقلبه وأقر بلسانه وعمل بقلبه وجوارحه، فهذا هو المؤمن حقاً، وهؤلاء يتفاوتون في درجات الإيمان ويتفاضلون في أعماله كما بين الله، وبهذا نكون قد عرفنا الأقسام الأربعة، ومعنى قول السلف: إنه قول وعمل. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.